إن ما يمكّن المرء من الخلاص والمصالحة مع الذات ومع أحداثٍ مضت وانقضت لا يملك حيالها أدنى قدرة على الفعل هو ملكة العفو والصفح؛ فالعفو يمكّن من نسيان الماضي. إن الصفح لا يكون إلا على الأمور الكبيرة، الأمور التي يُظن بأنه لا يمكن الغفران فيها هي التي تستحق الصفح. لأن الماضي حمل وعبء يحمله الإنسان على ظهره دائماً يعود إليه، غير قابل للنسيان أو يرفض ذلك لذلك تحث آرنت على أن يسود الوئام والسلام في العالم. إن الصفح والمصالحة والمقصود هنا بالمصالحة تلك الجهود المبذولة التي ترنو إلى إرساء سلام دائم ونشر الثقة بين المواطنين كذلك بين الخصوم القدامى." وتتم الإجراءات التصالحية من خلال صيغ الحوار والتضامن السلمي الذي يفضي إلى الاعتراف بالأخطاء وكشف الحقائق بغية الصفح عن الماضي أو بعضه من أجل هدف أكبر هو رأب الصدع بين الأطراف المتصارعة لتحقيق سلم شامل".([6])يكون حتى في حق الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية، الصفح يكون حتى لأولئك الذين قاموا بالتدمير والتفجير والإبادة، حتى وإن لم يطلبوا به. بواسطته نستطيع مقاومة بشاعة العالم، وهو العلاج لشروره، نظراً لأنه لا ينبغي مواجهة الشر بالشر. فالكائن البشري رغم الجرائم التي يرتكبها ينبغي تجاوز اختزاله في هذه الخانة، يمكنه الوصول إلى درجة من الرقي في سلوكه. لا بد من الحد من الشر وإبداله بالصفح، الرحمة، الحوار، التسامح، الرأفة؛ لأن الانشغال بالانتقام والعقاب، القصاص، العنف، الشراسة، كلها تؤدي إلى مزيد من الشرور والرجوع إلى الوراء. لماذا الصفح؟ لأنه لا يمكن للإنسان العودة إلى الوراء لإصلاح كل ما دمر، أو إرجاع شخص أزهقت روحه... يقول الباحث المغربي في الفلسفة السياسية نبيل فازيو: " يعني هذا، في جملة ما يعنيه، أن الصفح آلية لاستيعاب الماضي والتصالح مع الذاكرة، قصد التخفيف من وطأة وقسوة الشعور بالعجز أمام حتمية سير الزمن وعدم قابلية العودة إلى الماضي".([7]) لا يمكن إصلاح تلك الأفعال التي بلغ فيها الشر كماله، لذلك فالصفح هو التعويذة التي يمكنها أن تفتح أفقاً جديداً في المستقبل، فهو الوصفة السحرية.
Comments